فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

قرأ حمزة وعاصم والكسائي بالتاء المنقطة من فوق، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالياء المنقطة من تحت، وكذا في قوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ} أما القراءة الأولى ففيها وجهان: أحدهما: أن يقرأ كلاهما بفتح الباء.
والثاني: أن يقرأ كلاهما بضم الباء، فمن قرأ بالتاء وفتح الباء فيهما جعل التقدير: لا تحسبن يا محمد، أو أيها السامع، ومن ضم الباء فيهما جعل الخطاب للمؤمنين: وجعل أحد المفعولين الذين يفرحون، والثاني: بمفازة وقوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} تأكيد للأول وحسنت إعادته لطول الكلام، كقولك: لا تظن زيدا إذا جاءك وكلمك في كذا وكذا فلا تظنه صادقا، وأما القراءة الثانية وهي بالياء المنقطة من تحت في قوله: {لا تَحْسَبَنَّ} ففيها أيضا وجهان: الأول: بفتح الباء وبضمها فيهما جعل الفعل للرسول صلى الله عليه وسلم والباقي كما علمت.
والوجه الثاني: بفتح الباء في الأول وضمها في الثاني وهو قراءة أبي عمرو، ووجهه أنه جعل الفعل للذين يفرحون ولم يذكر واحدا من مفعوليه، ثم أعاد قوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ} بضم الباء وقوله: {هُمْ} رفع باسناد الفعل إليه، والمفعول الأول محذوف والتقدير: ولا تحسبن هؤلاء الذين يفرحون أنفسهم بمفازة من العذاب. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أنه تعالى وصف هؤلاء القوم بأنهم يفرحون بفعلهم ويحبون أيضا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، والمفسرون ذكروا فيه وجوها:
الأول: أن هؤلاء اليهود يحرفون نصوص التوراة ويفسرونها بتفسيرات باطلة ويروجونها على الاغمار من الناس، ويفرحون بهذا الصنع ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل الدين والديانة والعفاف والصدق والبعد عن الكذب، وهو قول ابن عباس، وأنت إذا أنصفت عرفت أن أحوال أكثر الخلق كذلك، فإنهم يأتون بجميع وجوه الحيل في تحصيل الدنيا ويفرحون بوجدان مطلوبهم، ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل العفاف والصدق والدين.
والثاني: روي أنه عليه الصلاة والسلام سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروا بخلافه، وأروه أنهم قد صدقوه وفرحوا بذلك التلبيس، وطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يثني عليهم بذلك، فأطلع الله رسوله على هذا السر.
والمعنى أن هؤلاء اليهود فرحوا بما فعلوا من التلبيس وتوقعوا منك أن تثني عليهم بالصدق والوفاء.
والثالث: يفرحون بما فعلوا من كتمان النصوص الدالة على مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من إتباع دين إبراهيم، حيث ادعوا أن إبراهيم عليه السلام كان على اليهودية وأنهم على دينه.
الرابع: أنه نزل في المنافقين فإنهم يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين على سبيل النفاق من حيث أنهم كانوا يتوصلون بذلك إلى تحصيل مصالحهم في الدنيا، ثم كانوا يتوقعون من النبي عليه الصلاة والسلام أن يحمدهم على الإيمان الذي ما كان موجودا في قلوبهم.
الخامس: قال أبو سعيد الخدري نزلت في رجال من المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو، ويفرحون بقعودهم عنه فإذا قدم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم، ثم طمعوا أن يثني عليهم كما كان يثني عن المسلمين المجاهدين.
السادس: المراد منه كتمانهم ما في التوراة من أخذ الميثاق عليهم بالاعتراف بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالإقرار بنبوته ودينه، ثم إنهم فرحوا بكتمانهم لذلك وإعراضهم عن نصوص الله تعالى، ثم زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة.
واعلم أن الأولى أن يحمل على الكل، لأن جميع هذه الأمور مشتركة في قدر واحد، وهو أن الإنسان يأتي بالفعل الذي لا ينبغي ويفرح به، ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والاقبال على طاعة الله. اهـ.
قال الفخر:
في قوله: {بِمَا أَتَوْاْ} بحثان:
الأول: قال الفراء: قوله: {بِمَا أَتَوْاْ} يريد فعلوه كقوله: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ} [النساء: 16] وقوله: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27] أي فعلت.
قال صاحب الكشاف: أتى وجاء، يستعملان بمعنى فعل، قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61] {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} ويدل عليه قراءة أبي {يَفْرَحُونَ بِمَا فَعَلُواْ}.
البحث الثاني: قرئ آتوا بمعنى أعطوا، وعن علي رضي الله عنه {بِمَا أُوتُواْ}. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب} أي بمنجاة منه، من قولهم: فاز فلان إذا نجا، وقال الفراء: أي ببعد من العذاب، لأن الفوز معناه التباعد من المكروه، وذكر ذلك في قوله: {فَقَدْ فَازَ} ثم حقق ذلك بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ولا شبهة أن الآية، واردة في الكفار والمنافقين الذين أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذاهم.
ثم قال: {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} أي لهم عذاب أليم ممن له ملك السموات والأرض، فكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا القادر الغالب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقد جاء تركيب الآية على نظم بديع إذ حُذف المفعول الثاني لفعل الحسبان الأوّل لدلالة ما يدلّ عليه وهو مفعول {فلا تحسبنّهم}، والتقدير: لا يحسبنّ الذين يفرحون إلخ أنْفسَهم.
وأعيد فعل الحسبان في قوله: {فلا تحسبنهم} [آل عمران: 188] مسندًا إلى المخاطب على طريقة الاعتراض بالفاء وأتي بعده بالمفعول الثاني: وهو {بمفازة من العذاب} [آل عمران: 188] فتنازعه كلا الفعلين.
وعلى قراءة الجمهور: {لا تَحسبنّ الذين يفرحون} [آل عمران: 188] بتاء الخطاب يكون خطابًا لغير معيّن ليعمّ كلّ مخاطب، ويكون قوله: {فلا تحسبنهم} اعتراضًا بالفاء أيضا والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم مع ما في حذف المفعول الثاني لفعل الحسبان الأول، وهو محلّ الفائدة، من تشويق السامع إلى سماع المنهي عن حسبأنه.
وقرأ الجمهور {فلا تحسبنّهم}: بفتح الباء الموحدة على أنّ الفعل لخطاب الواحد؛ وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب بضم الباء الموحدة على أنه لخطاب الجمع، وحيث إنّهما قرءا أوّله بياء الغيبة فضمّ الباء يجعل فاعل {يحسبنّ} ومفعوله متّحدين أي لا يحسبون أنفسهم، واتّحاد الفاعل والمفعول للفعل الواحد من خصائص أفعال الظنّ كما هنا وألحقت بها أفعال قليلة، وهي: (وَجد) و(عَدِم) و(فَقَدَ). وأمّا سين {تحسبنّهم} فالقراءات مماثلة لما في سين {يحسبنّ}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ} قرأ ابنُ كثير وأبو عمر {يَحْسَبَنَّ} و{فَلاَ يَحْسَبَنَّهُمْ}- بالياء فيهما، ورفع ياء {تَحْسَبَنَّهُم} وقرأ الكوفيونَ بتاءِ الخطابِ، وفتح الباء فيهما معًا، ونافع وابن عامر بياء الغيبة في الأول، وتاء الخطاب في الثاني، وفتح الباء فيهما معًا، وقُرِئَ شاذًا بتاء الخطاب وضَمِّ الباء فيهما معًا، وقرئ فيه أيضا بياء الغيبة فيهما، وفتح الباء فيهما أيضا فهذه خَمْس قراءاتٍ، فأما قراءة ابن كثيرٍ وأبي عمرو ففيهما خمسةُ أوجهٍ، وذلك: لأنه لا يخلو إما أن يُجْعَلَ الفعل الأول مسندًا إلى ضميرٍ غائبٍ، أو إلى الموصولِ، فإنْ جعلناه مسندًا إلى ضميرٍ غائبٍ، الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره- ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنَّ {الَّذِينَ} مفعول أوّل، والثاني محذوفٌ؛ لدلالة المفعول الثاني للفعل الذي بعده عليه، وهو {بِمَفَازَةٍ} والتقدير: لا يحسبن الرسول- أو حاسب- الذين يفرحون بمفازة، فأسند الفعل الثاني لضميرِ {الَّذِينَ} ومفعولاه الضمير المنصوب، و{بِمَفاَزَةٍ}.
الثاني: أن {الَّذِينَ} مفعول أول- أيضا- ومفعوله الثاني هو {بِمَفَازَةٍ} الملفوظ به بعد الفعل الثاني، ومفعول الفعل الثاني محذوف؛ لدلالة مفعول الأول عليه، والتقدير: لا يحسبن الرسول الذين يفرحون بمفازة فلا يحسبنهم كذلك، والعمل كما تقدم، وهذا بعيد جِدًا، للفصل بين المفعول الثاني للفعل الأول لكلامٍ طويلٍ من غير حاجةٍ، والفاء- على هذين الوجهين- عاطفة؛ والسببية فيها ظاهرة.
وإن جعلناه مسندًا إلى الموصول ففيه ثلاثة أوجهٍ:
أولها: أن الفعل الأول حُذِفَ مفعولاه، اختصارًا؛ لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما، تقديره: ولا يحسبن الفارحون أنفسَهم فائزين فلا يحسبنهم فائزين.
كقول الآخر: [الطويل]
بأيِّ كِتَابٍ، أمّ بِأيَّةِ سُنَّةٍ ** تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتحْسَبُ

أي: وتحسب حبهم عارًا، فحذفت مفعولي الفعل الثاني؛ لدلالة مفعولي الأول عليهما، وهو عكس الآيةِ الكريمةِ، حيث حذف فيها من الفعلِ الأولِ.
ثانيها: أن الفعل الأول لم يحتج إلى مفعولين هنا.
قال أبو علي {تَحْسَبَنَّ} لم يقع على شيء و{الَّذيِنَ} رفع به، وقد تجيء هذه الأفعال لَغْوًا، لا في حُكْمِ الجُمَل المفيدة، نحو قوله: [الطويل]
وَمَا خِلْتُ أبْقَى بِيْنَنَا مِنْ مَوَدَّةٍ ** عِرَاضُ الْمَذَاكِي المُسْنِفَاتِ الْقَلائِصا

المذاكي: الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان، الواحد: مُذَك مثل المُخَلف من الإبل وفي المثل: جريُ المذكيات غِلاب.
والمُسْنفات: اسم مفعول، يقال: سنفت البعير أسنفه، سنفًا، إذا كففته بزمامه وأنت راكبه وأسنف البعير لغة في سنفه وأسنف البعير بنفسه إذا رفع رأسه، يتعدى ولا يتعدى وكانت العربُ تركب الإبلَ، وتجنب الخيل، تقول: الحرب لا تبقى مودة وقال الخليلُ: العربُ تقول: ما رأيته يقول ذلك إلا زيدٌ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيدٌ.
يعني أبو علي أنها في هذه الأماكن مُلْغَاة، لا مفعول لها.
ثالثها: أن يكون المفعول الأول للفعل الأول محذوفًا، والثاني هو نفس {بِمَفَازَةٍ} ويكون {فَلاَ يَحْسَبَنهُمْ} توكيدًا للفعل الأول، وهذا رأي الزمخشريِّ؛ فإنه قال بعد ما حكى هذه القراءة-: على أن الفعل لِـ {الذين يَفْرَحُونَ} والمفعول الأول محذوف، على معنى: لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة بمعنى: لا يحسبنهم أنفسهم الذين يفرحون فائزين، و{فلا يحسبنهم} تأكيد.
قال أبو حيّان: وتقدم لنا الرَّدُّ على الزمخشريّ في تقديره: لا يحسبنهم الذين في قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي} [آل عمران: 178] وأن هذا التقدير لا يصح.
قال شهابُ الدِّينِ: قد تقدَّم ذلك والجواب عنه، لكن ليس هو في قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] بل في قوله: {ولا يَحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله} من قراءة من قرأ بياء الغيبة، فهناك ردَّ عليه بما قال، وقد أجيب عنه والحمد لله، وإنما نبهت على ذلك لئلا يطلب هذا البحث من المكان الذي ذكره فلم يوجد.
ويجوز أن يقالَ: في تقرير هذا الوجه الثالث-: أنه حذف من إحدى الفعلين ما أثبت نظيره في الآخر وذلك أن {بِمَفَازَةٍ} مفعول ثانٍ للفعل الأول، حذفت من الفعل الثاني، وهُمْ في {فلا يحسبنهم} مفعول أول للفعل الثاني، وهو محذوفٌ من الأولِ.
وإذا عرفت ذلك فالفعلُ الثاني- على هذه الأوجه الثلاثة- تأكيدٌ للأول.
وقال مكِّيٌّ: إن الفعل الثاني بدلٌ من الأولِ.
وفي تسمية مثل هذا بدلًا نظر لا يخفى، وكأنه يريد أنه في حكم المكرر، فهو يرجع إلى معنى التأكيد. وكذلك قال بعضهم: والثاني مُعَاد على طريق البدل، مشوبًا بمعنى التأكيدِ.
وعلى هذين القولين- أعني كونه تأكيدًا، أو بدلًا- فالفاء زائدة، ليست عاطفة ولا جوابًا.
قوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ} أصله: تحسبونَنَّهم، بنونين- الأولى نون الرفع، والثانية للتوكيد- وكتصريفه لا يخفى من القواعد المتقدمة. وتعدى هنا فعل المضمر المنفصل إلى ضميره المتصل، وهو خاص بباب الظن، وبعدم وفقد دون سائر الأفعال. لو قلت: أكرمتُني، أي: أكرمت أنا نفسي لم يجز.
وأما قراءة الكوفيين فالفعلانِ فيها مسندان إلى ضمير المخاطب إما الرسول صلى الله عليه وسلم أو كل من يصلح للخطاب- والكلام في المفعولين للفعلين كالكلام فيهما في قراءة أبي عمرو وابن كثيرٍ، على قولنا إن الفعلَ الأولَ مسندٌ لضميرٍ غائبٍ، والفعل الثاني تأكيدٌ للأولِ، أو بدلٌ منه، والفاء زائدة، كما تقدم في توجيه قراءة أبي عمرو وابن كثير، على قولنا: إن الفعلين مسندان للموصول؛ لأن الفاعل فيهما واحد، واستدلوا على أن الفاء زائدة بقول الشاعر: [الكامل]
لا تَجْزَعِي إنْ مُنْفِسًا أهْلَكْتُهُ ** فَإذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذلِكَ فَاجْزَعِي

وقول الآخر: [الكامل]
لَمَّا اتَّقَى بِيَدٍ عَظِيمٍ جِرْمُهَا ** فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْذَبُ

وقول الآخر: [الكامل]
حَتَّى تَرَكْتُ العَائِدَاتِ يَعُدْنَهُ ** فَيَقُلْنَ: لا تَبْعَدْ، وَقُلْتُ لَهُ: ابْعَدِ

إلا أنَّ زيادةَ الفاءِ ليس رأي الجمهورِ، إنما قال به الأخفش.
وأما قراءة نافع وابن عامرٍ- بالغيبة في الأولِ، والخطاب في الثاني- فوجهها أنهما غايرا بين الفاعلين، والكلام فيهما يؤخذ مما تقدم، فيؤخذ الكلام في الفعل الأول من الكلام على قراءة أبي عمرو وابن كثير، وفي الثاني من الكلام على قراءة الكوفيين بما يليق به، إلا أنه ممتنع- هنا- أن يكون الفعل الثاني تأكيدًا للأول، أو بدلًا منه؛ لاختلاف فاعليهما، فتكون الفاء- هنا- عاطفةً ليس إلا، وقال أبو علي في الحُجة-: إن الفاءَ زائدة، والثاني بدلٌ من الأولِ، قال: وليس هذا موضع العطف لأن الكلامَ لم يتم، ألا ترى أن المفعول الثاني لم يُذْكَر بَعْدُ.
وفيه نظرٌ؛ لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما.
وأما قراءة الخطاب فيهما مع ضم الباء فيهما فالفعلان مسندان لضمير المؤمنين المخاطبين، والكلام في المفعولين كالكلام فيهما في قراءة الكوفيينَ.
وأما قراءةُ الغيبةِ وفتح الباء فيهما فالفعلان مسندانِ إلى ضميرٍ غائبٍ، أي: لا يحسبن الرسولُ، أو حاسبٌ.
والكلامُ في المفعولينِ للفعلينِ، كالكلام في القراءة التي قبلها، والثاني من الفعلين تأكيدٌ، أو بدلٌ، والفاءُ زائدةٌ- على هاتينِ القرائتينِ- لاتحادِ الفاعلِ.
وقرأ النَّخعِيُّ، ومروان بن الحكمِ {بما آتوا} ممدودًا، أي: أعْطُوا، وقرأ علي بن أبي طالبٍ {أوتوا} مبنيًا للمفعول.
قوله: {مِّنَ العذاب} فيه وجهانِ:
أحدهما: أنه متعلق بمحذوف، على أنه صفة لِـ {مَفَازَةٍ} أي: بمفازة كائنةٍ من العذاب على جَعْلِنَا مَفَازَةٍ مكانًا، أي بموضع فَوْز.
قال أبو البقاء: لأن المفازةَ مكان، والمكأن لا يعملُ.
يعني فلا يكون متعلقًا بها، بل محذوف، على أنه صفة لها، إلا أن جعله صفة مشكل؛ لأن المفازة لا تتصف بكونها {مِّنَ العذاب} اللهم إلا أن يُقَدَّر ذلك المحذوف الذي يتعلق به الجارُّ شيئًا خاصًا حتى يُصبح المعنى تقديره: بمفازة منجيةٍ من العذابِ، وفيه الإشكالُ المعروفُ، وهو أنه لا يُقَدَّر المحذوف- في مثله- إلا كَوْنًا مطلقًا.
الثاني: أن يتعلق بنفس مفازة على أنها مصدر بمعنى الفَوْز، تقول: فزت منه أي: نَجَوْت، ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء؛ لأنها مبنيةٌ عليها، وليست الدالة على التوحيد.
كقوله: [الطويل]
فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنكَ وَرَهْبَةٌ ** عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالمَوَارِدِ

فأعمل رهبة في عقابك وهو مفعول صريح، فهذا أولى.
قال أبو البقاء: ويكون التقدير: فلا تحسبنهم فائزين، فالمصدر في موضع اسم الفاعلِ.
فإن أراد تفسير المعنى فذاك، وإن أراد أنه بهذا التقدير- يصح التعلُّق، فلا حاجة إليه؛ إذ المصدر مستقل بذلك لفظًا ومعنىً. اهـ. بتصرف.